قصر بران
لقصر بران تاريخ عجيب حقًا.. تاريخ حزين نوعًا.. مخيف دومًا..
يقع القصر في ترانسلفانيا في رومانيا.. تحديدًا وسط جبال كارباثيان وعلى أعلى قمة فيها، منذ ألف عام، ومازالت حتى اليوم موجودة تحمل أسرارها وتاريخها الرهيب..
بني القصر عام 1212 على يد رابطة التيتونيين، ثم احتله الساكسون واستخدموه كحصن أيام الحروب، وفي عام 1370 تصدى القصر للغزاة الأتراك، حتى أصبحت مهمة القصر الوحيدة هي صد الغزوات والصمود في المعارك، ولهذا تشكل على هذا الأساس لتضاف إليه ثلاثة أبراج، غير برج البارود الذي كان موجودًا فيه منذ البداية..
الأبراج صممت بحيث تحوي ثقوب الموت كما كانوا يسمونها، فمنها كان الجنود يلقون الماء المغلي على مهاجمي القلعة، كما أن الجدران تم تدعيمها لتصل إلى سمك 11 قدما، وبالتالي أصبحت منيعة حتى أمام طلقات المدافع..
فقط حين أتت "ماريا" ملكة رومانيا لتقيم في القصر، بدأت مراحل تحويله من حصن يتصدى للغزاة إلى قصر ملكي فاخر يليق بملكة رومانيا.. فلقد قامت الملكة بإعادة ترميم الجدران والأبراج، ثم أضافت دورًا رابعًا للقصر، ومصعدًا بدائيًا ليحملها عبر أدوار القصر، والأهم من هذا كله، شبكة ممرات سرية أسفل القصر تقودها -وقت الحاجة- إلى تلة بعيدة عن القصر..
لكن القصر لم يكن في حاجة إلى ترميم قدر ما كان في حاجة إلى تطهير..
فعلى الرغم من كل الحروب التي شهدها إلا أنه حظي بشرف أن يقيم فيه أمير والاشيا "فلاد الثالث"، أو كما يعرفه الكثيرون منكم باسمه الأشهر..
"دراكيولا"..
ولنعرف ما شهده قصر "بران" في عهده، دعنا نبدأ منذ البداية.. من القرن الثالث عشر تحديدًا..
في ذلك الوقت ظهرت مقاطعة والاشيا في قلب رومانيا واستقلت عنها سياسيًا، ليحكمها الأمير "باساراب" العظيم، الذي خاض الأمرين ليضمن استقلال مقاطعته، تاركاً أسرته تنقسم على نفسها لتتحول إلى نصفين يتنافسان على السلطة، فتحولت عائلته إلى جيشين أحدهما تابع إلى الأمير "دان" والآخر للأمير "ميركا" الذي كان جد "دراكيولا"، والذي قام مع ابنه "فلاد الثاني" باغتيال كل من عارض وصولهما إلى السلطة، لينتهي الأمر بمقتلهما هما شخصيًا وبمقتل أخي "فلاد الثالث" بأن دفن حيًا، لتصل السلطة في النهاية وبمعجزة ما إلى "فلاد الثالث"، وليبدأ عهد الرعب..
كل هذه الصراعات نشأت لأن الحكم لم يكن بالوراثة، بل كان بانتخاب النبلاء الذين كان لهم الحق في اختيار أي شخص من الأسرة المالكة ليتولى المنصب، لذا لم يكد "فلاد الثالث" يتولى الحكم -بعد أن دفع والده وجده وأخوه الثمن- حتى دعا كل نبلاء المقاطعة إلى وليمة ضخمة في قصر بران..
في تلك الوليمة سألهم "فلاد": "كم أميرًا عاصرتم حكمه في هذه المقاطعة؟؟"، لتأتيه الردود متباينة ما بين سبعة وثلاثين، فلم يكد "فلاد" يسمع هذا الرد حتى أمر بالقبض عليهم جميعًا، وخزوقة النبلاء أحياء، وإرسال عائلاتهم للعمل في ترميم القصر..
وهنا سنتوقف عند نقطتين.. الخزوقة والعمل في القصر..
ففي الأولى يذكر التاريخ أن "فلاد الثالث" كان مهووسًا بخزوقة أعدائه بأبشع طريقة ممكنة، فلقد كان يبتكر طرقًاً للخزوقة تحافظ على حياة من يتعرضون لها لأطول فترة ممكنة ليطيل عذابهم، بل إنه كان يحذر جلاديه من أنهم لو قاموا بخزوقة أحد النبلاء ومات منهم بسرعة، فسيحتلون هم مكانه..
وهكذا حصل "فلاد" على لقبه الأول "فلاد المخزوّق"..
أما العائلات من النساء والأطفال فكانوا يعملون في ترميم القصر بلا طعام تقريبًا ومع وصلات تعذيب، لدرجة أن ملابسهم بالت عليهم فأكملوا العمل عرايا، وهم يتساقطون موتى وسط الأحجار..
عدد الضحايا؟.. يقال إنه تجاوز الثلاثين ألفًا، والألعن من هذا كله أن "فلاد" كان يحتفظ بالجثث في ساحة القصر حتى بدأت تتعفن وتتصاعد منها رائحة مثيرة للغثيان.. هذا المشهد رآه "محمد الثاني" فقرر إيقاف حربه ضد "فلاد"، عملاً بمبدأ إن كان يفعل هذا بشعبه، فما الذي سيفعله بنا؟؟
لا مبالغة ها هنا، بل يكفي أن فترة حكم "فلاد" كانت أكثر فترة تعرضت فيها غابات رومانيا للقطع، لتصنع الخوازيق بأشجارها.. ثم إن الأمر لم يتوقف عند النبلاء..
فقصص ما شهده قصر بران على يد "فلاد الثالث" أكثر هولاً من كل الأساطير التي نسجت عنه بعد ذلك بكثير.. خذ عندك..
في أحد الأيام أتاه رجاله ليخبروه بأن الفقر انتشر في المقاطعة وأن الفقراء والشحاذين يملأون الطرقات، فما كان من "فلاد" إلا أن جمعهم على وليمة هائلة، لم تكد تنتهي حتى أحرقهم أحياء..
آلاف احترقوا والناجون تمت خزوقتهم، وحين انتهى أمرهم، ابتسم "فلاد" في رضا ليقول:
هكذا أكون قد قضيت على الفقر في عهدي..
و لم يتوقف جنونه عند هذا الحد ولم ينجُ منه أي شخص..
ففي أحد الأيام زارته مجموعة من السفراء الذين رفضوا خلع قبعاتهم عند دخولهم القصر، ليأمر "فلاد" بتثبيتها بالمسامير على رءوسهم كيلا ينزعونها أبدًا..
وفي أحد الأيام أقام وليمة لمجموعة من النبلاء وسط ساحة القصر، حيث تناثرت جثث أكثر من أربعين ألف شخص، ليلاحظ أثناء الطعام أن أحد النبلاء يضع يده على أنفه مشمئزًا من رائحة الجثث.. فأمر "فلاد" بقطع أنفه وخزوقته على أعلى خازوق ليكون أعلى من مستوى روائح الجثث!
حتى عشيقته لم تسلم منه، فعلى الرغم من أنها كانت تتفنن في إرضائه وتحمل طباعه الرهيبة، فإنها أخطأت خطأ عمرها حين داعبته إحدى المرات وأخبرته بأنها حملت منه.. حذرها "فلاد" من المزاح في مثل هذه الأشياء، لكنها أصرّت، فأتى "فلاد" بأطبائه ليفحصوها وليثبتوا أنها ليست كما تدعي، ليأمر "فلاد" بنزع أحشائها وتركها لتموت ببطء..
وهنا تأتي نقطة مهمة عن "فلاد".. لقد كان يمقت الكذب والسرقة إلى أقصى حد..
ففي إحدى المرات زارت قافلة من التجار والاشيا لتتعرض إلى السرقة.. سرقت منهم 160 قطعة ذهبية، فأسرعوا إلى "فلاد" يشكون إليه، فأخبرهم بأنه سيأتي بالسارق وأرسل لهم 161 قطعة ذهبية من باب التعويض، وبالفعل قبض على السارق وخزوقه، لكن التجار أتوا إليه ليخبروه بأنه أرسل إليهم بقطعة زائدة، ليبتسم هو قائلا:
لو لم تبلغوا عن هذه القطعة لكان مصيركم على الخوازيق..
هكذا لم يعد أحد يجرؤ على السرقة في البلاد، لدرجة أن "فلاد" كان يضع أكوابا ذهبية أأشفي الطرقات على أمل أن يسرقها أحد ليخزوقه، دون أن يفعلها أحد في النهاية..
وهكذا كثرت القصص والأساطير عنه، وزاد هوسه هو بالتنانين دون سبب مفهوم، فأمر برسمها على دروع وملابس جنوده، وليحصل هو على لقبه الثاني..
"دراكيولا"..
فكلمة تنين بالرومانية تعني "دراكول"، وهو لقب استحقه عن جدارة لكن رواية "برام ستوكر" خلدته في الرواية الشهيرة، لينسى الناس "فلاد"، ويتذكروا مصاص الدماء "دراكيولا"..
واليوم يمكنك أن تزور قصر بران بنفسك بعد أن تحول إلى متحف يؤمه الزوار من كل مكان، فقط لا تنسَ أنه مسكون.. نعم.. مسكون!
بعد كل ما شهده القصر لا تريد له أن يكون مسكونًا؟!!
المشاهدات عديدة وتتراوح من سماع صرخات الألم والعذاب في ساحة القصر، وحتى أشباح النساء والأطفال القتلى في أروقة القصر..
يزعم البعض أن كل هذه شائعات من باب زيادة جرعة الإثارة وليضمنوا أن يزيد عدد السائحين، لكن القصر لا يحتاج لمثل هذه الدعاية..
فيكفيه فخرًا أنه كان قصر "دراكيولا" شخصيًا!..